نفاد الصبر التركي- تداعيات العدوان الإسرائيلي وتحديات سوريا وتركيا

المؤلف: سمير العركي08.24.2025
نفاد الصبر التركي- تداعيات العدوان الإسرائيلي وتحديات سوريا وتركيا

الاعتداء الإسرائيلي الغاشم على الأراضي السورية في السادس عشر من شهر يوليو/تموز الحالي، لم يكن الأول من نوعه، إلا أنه تميز بشراسة غير مسبوقة وتصعيد خطير، حيث شملت الغارات الإسرائيلية مناطق واسعة من السويداء ودرعا وصولًا إلى العاصمة دمشق، واستهدفت بشكل مباشر القوات التابعة لوزارتي الدفاع والداخلية السوريتين، بالإضافة إلى تدمير شبه كامل لمبنى هيئة الأركان العامة في قلب العاصمة.

لم تقتصر الخسائر الناجمة عن هذا الاستهداف الإسرائيلي على التدمير المادي فحسب، بل امتدت لتشمل خسائر بشرية فادحة طالت صفوف القوات الأمنية، بما في ذلك قادة وضباط وأفراد.

إلا أن كلمة الرئيس السوري، أحمد الشرع، التي تم بثها في الساعات الأولى من فجر السابع عشر من يوليو/ تموز، شكلت إشارة واضحة إلى نهاية هذه الجولة من الصراع السوري الإسرائيلي، والذي يبدو أنه قد بدأ للتو، في ظل مستقبل مفتوح على جميع الاحتمالات والسيناريوهات المحتملة.

فالرئيس الشرع أوضح في خطابه المتلفز أن القيادة السورية كانت أمام خيارين لا ثالث لهما، إما "الدخول في حرب مفتوحة مع الكيان الإسرائيلي، وما يترتب على ذلك من تداعيات خطيرة على الدروز وأمنهم، وزعزعة الاستقرار في سوريا والمنطقة بأسرها"، وإما "إفساح المجال أمام وجهاء ومشايخ الدروز للتحلي بالحكمة والتبصر، وتغليب المصلحة الوطنية العليا على أي اعتبارات أخرى".

وأكد الرئيس على أن الحكومة السورية قد قدمت "مصلحة الشعب السوري على الفوضى والدمار والخراب"، وأن "الخيار الأمثل في هذه المرحلة الحساسة هو اتخاذ قرار حكيم يهدف إلى حماية وحدة البلاد والحفاظ على سلامة أبنائها، استنادًا إلى المصلحة الوطنية العليا للبلاد".

وعليه، تم اتخاذ القرار بتكليف بعض الفصائل المحلية وشيوخ العقل بمسؤولية الحفاظ على الأمن والنظام في منطقة السويداء.

وفي معرض تعليله لهذا القرار، شدد الرئيس الشرع على أن الهدف الأساسي هو "تجنب انزلاق البلاد إلى أتون حرب واسعة النطاق، قد تبعدها عن أهدافها النبيلة في التعافي من آثار الحرب المدمرة، وتصرفها عن المصاعب والتحديات السياسية والاقتصادية التي خلفها النظام السابق".

وبعيدًا عن حسابات المكسب والخسارة، فإنه وكما ذكرنا سابقًا، نحن بصدد جولة جديدة من حرب طاحنة بدأت للتو، وما جرى خلال اليومين الماضيين من العدوان الإسرائيلي، سيترك بصماته القوية وتأثيراته العميقة، ليس على الوضع في سوريا فحسب، بل على المنطقة بأسرها، وخاصة على تركيا.

فقد تسببت سنوات الحرب الطويلة في سوريا، والتي تجاوزت الأربعة عشر عامًا، في تعريض تركيا لمخاطر جيوسياسية وأمنية جسيمة، الأمر الذي دفعها إلى إرسال قواتها إلى منطقة الشمال السوري، بدءًا من عام 2016، بهدف منع تقسيم الأراضي السورية، والحيلولة دون منح تنظيم حزب العمال الكردستاني "PKK" ممرًا انفصاليًا يبدأ من مدينة القامشلي في الشرق وصولًا إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط في الغرب.

وكان سقوط نظام بشار الأسد في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول من العام 2024 بمثابة انتصار إستراتيجي كبير، ليس فقط لقوات الثورة السورية، بل لتركيا أيضًا، التي بدأت تستعد للاستفادة من ثمار هذا الانتصار على المستويين: الإستراتيجي والأمني.

إلا أن التصعيد الإسرائيلي الأخير ينذر بمخاطر جديدة محتملة، قد تواجهها الدولة السورية، والتي لن تقتصر آثارها عليها وحدها، بل ستمتد بطبيعة الأمور إلى تركيا المجاورة.

ومن هنا، يثور بطبيعة الحال، تساؤلات ملحة حول كيفية تعامل أنقرة مع هذه التهديدات المستجدة والخطيرة، وهل ستكتفي بالوقوف مكتوفة الأيدي، والاكتفاء بإصدار بيانات التنديد والإدانة عبر وسائل الإعلام، والتحرك على المستوى الدبلوماسي فحسب؟ كما تتسع دائرة التساؤلات لتشمل جوهر الإجراءات والتدابير العملية، التي يمكن لتركيا اتخاذها لمواجهة تداعيات التوسع الإسرائيلي في سوريا والمنطقة بأسرها.

نفاد الصبر التركي

جاءت تصريحات وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، محملة بغضب تركي جلي، حيث علق على الاعتداء الإسرائيلي على سوريا قائلًا:
"لقد نفد صبرنا، وهذا هو جوهر ما سنتحدث عنه مع إسرائيل، فهي لا تبدو راغبة في تحقيق السلام".

لكن ما الذي يعنيه نفاد الصبر التركي؟

من المعلوم للجميع أنه ومنذ اندلاع عملية طوفان الأقصى، وما نشهده من اعتداءات إسرائيلية وحشية على قطاع غزة، وبدرجة أقل على كل من لبنان وسوريا (في ظل نظام بشار الأسد الحالي)، وإيران مؤخرًا، فإن التقديرات التركية تشير إلى أن نيران هذه الحرب قد تمتد لتطالها في يوم ما.

فالتصريحات الرسمية الصادرة عن الحكومة التركية، وتلك الصادرة عن الأحزاب السياسية، وعلى رأسها تصريحات الرئيس، رجب طيب أردوغان، ورئيس حزب الحركة القومية، دولت بهتشلي، تشير بوضوح إلى احتمالية وقوع مواجهات تركية إسرائيلية في أي لحظة قادمة.

بل إن هذا الهاجس كان أحد أهم الأسباب التي دفعت بهتشلي، في أواخر العام الماضي، إلى إطلاق مبادرته الرامية إلى جعل تركيا خالية تمامًا من الإرهاب، والتي تكللت بإعلان حزب العمال الكردستاني حل نفسه، والشروع في تسليم كافة أسلحته ومعداته، وذلك بهدف توحيد الجبهة الداخلية.

هذه المناقشات والتحليلات امتدت لتشمل أطروحات العديد من الكتاب والصحفيين الأتراك المحافظين والقوميين، كما يمكن تتبعها بسهولة عبر منصات التواصل الاجتماعي المختلفة، من خلال المحتوى الذي ينشره الناشطون والمؤثرون الأتراك.

والخلاصة التي يمكن استخلاصها، هي أن هناك قناعة راسخة في أوساط المجتمع التركي، بأن خيار الحرب مع إسرائيل قد يصبح واقعًا في أي لحظة، إلا أن أنقرة في الوقت ذاته تسعى جاهدة لتفادي هذا السيناريو أو تأخيره قدر الإمكان.

فقد حذر وزير الخارجية التركي، في تصريحات صحفية أدلى بها مؤخرًا، من خطورة السياسات الإسرائيلية المتهورة، مؤكدًا أنها ستؤدي حتمًا إلى إلقاء "الجميع في أتون النار"، بمن فيهم إسرائيل نفسها.

وطالب الوزير المجتمع الدولي بأسره، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي ودول المنطقة، بإبداء أقصى درجات الحساسية واليقظة، والعمل على وضع حد فوري للتصرفات الإسرائيلية غير المسؤولة، وإلا "فإن عواقب وخيمة لا يمكن تصورها ستظهر في المنطقة بأسرها"، وذلك على حد تعبير الوزير فيدان.

وإذا ما قمنا بتحليل معمق لمضمون هذا الخطاب، فإننا نجد أنفسنا أمام عبارات وكلمات تم اختيارها بعناية فائقة ("نفاد الصبر"- "وقوع الجميع في النار"- "العواقب الوخيمة")، وهي بمثابة رسالة تحذيرية قوية اللهجة، تبعث بها أنقرة إلى المجتمع الدولي، وخاصة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، من أجل التحرك العاجل قبل فوات الأوان، وقبل أن تنزلق المنطقة بأسرها إلى هوة الفوضى والاضطرابات، وذلك من خلال وقف التصعيد الإسرائيلي الجامح والمتهور، والذي كان من المستحيل حدوثه بهذا الاتساع والتوسع، لولا الدعم اللامحدود الذي تقدمه واشنطن والعواصم الأوروبية لتل أبيب.

البدائل التركية

لا أبالغ إطلاقًا إذا قلت إن تركيا تعيش حاليًا وضعًا إستراتيجيًا بالغ الصعوبة والحساسية، في وقت كانت فيه بأمس الحاجة إلى تهدئة الجبهة السورية لعدة سنوات قادمة، وتجنب الدخول في صراع مباشر مع الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك ريثما تنتهي فترة ولاية الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، بهدف تفكيك وتسوية عدد من الملفات الخلافية العالقة، وفي مقدمتها إنهاء العقوبات الأمريكية المفروضة على تركيا، وإعادة دمج أنقرة مجددًا في برنامج طائرة "إف-35" المقاتلة، وإغلاق ملف حزب العمال الكردستاني بشكل كامل ونهائي، بالإضافة إلى تطوير العلاقات الاقتصادية بين البلدين، وزيادة حجم التبادل التجاري.

ولكن شاءت الأقدار أن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، وأن تفرض سياسات نتنياهو التوسعية والعدوانية تحديات جمة وكبيرة أمام صانعي القرار في العاصمة التركية، أنقرة.

إذ يمثل أي تصدع محتمل في بنية الدولة السورية، أو انفراط لعقدها، تهديدًا مباشرًا للأمن القومي التركي في منطقة الأناضول، بل وسيتردد صداه وتأثيراته السلبية في العواصم الأوروبية، تمامًا كما حدث في سنوات الحرب الأربع عشرة الماضية.

وانطلاقًا من هذا المنطلق، فإن تركيا تحتاج- في تقديري المتواضع- إلى اتخاذ عدد من الإجراءات والتدابير ذات الطابع الإستراتيجي، وأهمها على الإطلاق:

  • أولًا: بناء موقف موحد ومتكامل مع دول المنطقة، وخاصة الدول التي تمتلك أدوات تأثير قوية على الساحة العالمية، بما يمكنها من ممارسة ضغوط حقيقية وملموسة على الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، وفي مقدمة هذه الأدوات سلاح الطاقة والتمويل المالي، بالإضافة إلى تحكم هذه الدول في العديد من الممرات الملاحية وطرق التجارة العالمية الحيوية.

وتصريحات وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، في هذا الشأن، تشير بوضوح إلى إدراك أنقرة لأهمية هذا التحرك المشترك والمنسق، إذ صرح قائلًا: "نجتمع مع الأردن والمملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية. ونجتمع أيضًا ونجري تقييمات جادة ومستفيضة، ويجب على جميع الأطراف أن تدرك حجم الصعوبات والتحديات التي سيتسبب بها هذا (نتنياهو) للمنطقة بأسرها".

ففي أعقاب العدوان الإسرائيلي الأخير على إيران، سارعت تركيا إلى عقد اجتماع طارئ لوزراء خارجية منظمة التعاون الإسلامي في مدينة إسطنبول، واليوم تحتاج سوريا إلى إظهار مثل هذا التضامن والتكاتف، الذي يمثل في حقيقته رسالة دعم قوية وغير مباشرة للأمن القومي التركي.

  • ثانيًا: المسارعة إلى إنهاء ملف قوات سوريا الديمقراطية "قسَد"، فوجود هذه القوات الانفصالية على الحدود السورية التركية، يمثل شوكة حادة في خاصرة الأمن القومي التركي، خاصة في ظل علاقاتها الوثيقة مع تل أبيب، التي تسعى جاهدة لتدشين ممر آمن يمتد من جنوب سوريا إلى شمال شرقها، بهدف تمويل ودعم "قسد" وتمكينها.

تكمن خطورة هذه المليشيات في دعمها للتحركات الانفصالية داخل الأراضي السورية، كما تجلى بوضوح في أحداث السويداء الأخيرة، وكما تابعنا في أحداث الساحل السوري في شهر مارس/ آذار الماضي، ومن ناحية أخرى، تحاول هذه المليشيات كسب المزيد من الوقت، ريثما تنتهي فترة ولاية الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، ودخول إدارة جديدة إلى البيت الأبيض، ربما تكون من الحزب الديمقراطي، الذي تربطه بها علاقات أكثر وثوقية ومتانة، خاصة وأن علاقة الإدارات الديمقراطية بتركيا كثيرًا ما تشوبها التوترات وعدم الانسجام.

كل هذه الحقائق تدركها تركيا بوضوح تام، لذا كانت التحذيرات التي وجهها الوزير فيدان لهم قوية اللهجة وواضحة المعالم، إذ قال: "هناك شائعات تتردد أيضًا حول انخراط وحدات حماية الشعب (الكردية)، في أنشطة مشبوهة، ورسالتنا لهم هي توخي الحذر الشديد، وعدم استغلال هذه الاضطرابات لتعقيد العملية الحرجة والحساسة في سوريا أكثر، والاضطلاع بدور متسق وبناء، وإلا فإن هذه الانتهازية تحمل معها مخاطر جسيمة".

وإذا كانت تركيا تأمل في أن تكون تلك المجموعات "السورية" جزءًا من عملية الحل الشاملة مع حزب العمال الكردستاني، وذلك من خلال إعلان حل نفسها وإلقاء السلاح، فإنها تدرك في الوقت ذاته أنها قد تضطر في نهاية المطاف إلى إنهاء هذا الملف بنفسها، أو من خلال تعاون مشترك مع القوات الحكومية السورية.

  • ثالثًا: الارتباط مع الدولة السورية باتفاقية دفاع مشترك، تسمح لتركيا بضمان الوجود الشرعي لقواتها على الأراضي السورية، كما تمنحها الحق في إعادة تأهيل وتدريب الجيش السوري وتطوير قدراته.

فعلى الرغم من كثرة الحديث عن مثل هذه الاتفاقية منذ سقوط نظام بشار الأسد، إلا أنه يبدو أن ثمة "حساسيات" و"حسابات" إقليمية معقدة حالت دون إقرارها وتفعيلها حتى هذه اللحظة.

إلا أن العدوان الإسرائيلي الأخير على سوريا، أظهر بجلاء مدى الحاجة الملحة والضرورية إلى هذه الاتفاقية، ليس فقط من أجل حماية سوريا ومقدراتها وثرواتها، بل من أجل ضمان استتباب الأمن القومي التركي أيضًا.

والخلاصة
أن العدوان الإسرائيلي الأخير على الأراضي السورية، يمثل بمثابة إنذار مبكر لتركيا، من أجل اتخاذ كافة التدابير والإجراءات اللازمة والتحوطية، تحسبًا لأي مواجهة عسكرية محتملة مع إسرائيل، قد تندلع بشكل مفاجئ وغير متوقع.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة